فظائع غزة- إسرائيل تتجاوز الخطوط الحمراء، و العالم متفرّج

المؤلف: فهمي هويدي11.07.2025
فظائع غزة- إسرائيل تتجاوز الخطوط الحمراء، و العالم متفرّج

لم يعد من ذي جدوى بذل الجهود في تعداد الفظائع التي اقترفتها إسرائيل – ولا تزال – في قطاع غزة المنكوب. والعلة الجوهرية تكمن في أننا أمام حالة بغيضة من الاستباحة الشاملة، تجاوزت في شناعتها كل الحدود المتعارف عليها في السلوك الإنساني القويم. وعليه، فالسؤال الذي يلحّ بعد مرور ستة أشهر عصيبة على العدوان الغاشم هو: أي الجرائم لم ترتكبها إسرائيل بعد؟

صحيح أن الشعب الفلسطيني قد تكبّد ثمناً باهظاً، وأن العدوان قد دمّر نسيج حياتهم تدميراً شاملاً، إلا أن التداعيات المترتبة على هذا الانتقام المسعور الذي يمارسه الاحتلال الإسرائيلي لا يمكن الاستهانة بها بحال، إذ تنذر مفاعيلها العاجلة والآجلة بعواقب وخيمة. وقد أقرّ بذلك زعيم المعارضة الإسرائيلية في الكنيست، يائير لبيد، في شهر نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم، حينما أعلن صراحةً أن إسرائيل لم تعد قوة أخلاقية يعتد بها ولا قوة إقليمية مرهوبة الجانب، وأنها لن تنتصر في هذه المعركة الضروس.

ومن الشهادات الجديرة بالاهتمام في هذا المقام، ما نشرته صحيفة «لو فيجارو» الفرنسية اليمينية، الداعمة لإسرائيل تقليدياً، بقلم كاتبها المرموق رينو جيرار، في مقال تحت عنوان: «إستراتيجية إسرائيل الانتحارية»، والذي نُشر مطلع شهر يناير/كانون الثاني. وقد جاء في المقال ما يستحق التأمل ملياً: «يجب أن تتحلى بالشجاعة الكافية للاعتراف بأن هذه الصهيونية الغازية ما هي إلا ضرب من الانتحار لإسرائيل وللدول الغربية الداعمة لها. ففرص قبول إستراتيجية الطرد القسري لأحفاد السكان الأصليين الذين عاشوا لقرون مديدة في فلسطين تكاد تكون معدومة لدى جيران إسرائيل، سواء القريبين أو البعيدين – وهذا بحد ذاته وصفة مثالية لحروب أبدية لا تنتهي. بل وحتى الولايات المتحدة نفسها قد تضيق ذرعاً بغطرسة اليمين الإسرائيلي المتطرف، الذي يسلب الفلسطينيين حقهم الأصيل في تشكيل أمّة مستقلة ذات سيادة.»

*

إن تكرار قتل المدنيين العزل في غزة والضفة الغربية على مرأى ومسمع من العالم أجمع، يجعل من استحضار جرائم هتلر النكراء ضد اليهود في الفترة ما بين عامي 1933 و1945 أمراً ليس فيه أدنى مبالغة، بل وفيه الكثير مما يمكن قوله في هذا الصدد، عند مقارنة الفظائع التي ارتكبها النازيون، والتي حُوسبوا عليها في نهاية المطاف، بجرائم أخرى أشدّ بشاعة ارتكبها الإسرائيليون ولم يحاسبهم عليها أحد حتى الآن.

ولعلّ من أقوى أوجه الشبه بين الحالتين، أن النازيين قد اتبعوا مع اليهود ما أطلقوا عليه زوراً وبهتاناً سياسة «الحل النهائي»، والتي بمقتضاها كان يتم إطلاق النار العشوائي على تجمعات اليهود أينما وُجدوا؛ بهدف قتل أكبر عدد ممكن منهم والقضاء عليهم إلى الأبد. وهذا بالضبط ما يفعله الإسرائيليون مع الفلسطينيين في قطاع غزة المحاصر. فبعد تدمير المدن والقرى وتهجير سكانها قسراً، أصبح القتل المباشر هو المصير المحتوم لكل تجمع بشري يظهر للعيان، أو لأفراد يتحركون في مرمى البصر، وهو ما يتولاه قناصة قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي المنتشرين على الأرض، والطائرات المسيّرة التي تحوم في سماء القطاع على مدار الساعة.

وتظلّ المقارنة بين هذين الحدثين التاريخيين قائمة، فإذا كان النازيون قد اعتبروا مواطنيهم اليهود من عرقٍ أدنى يخلّ بصفاء العرق الآري الذي ينتمون إليه، فإنّ الاحتلال الإسرائيلي بدوره يتحدث عن الفلسطينيين باعتبارهم «أغياراً» أدنى مرتبة من شعب الله «المختار»، بل ويصفهم في كثير من الأحيان بأنهم حشرات أو حيوانات لا قيمة لها.

وكما أن النازيين قد أقاموا معسكرات اعتقال لليهود، فإن الإسرائيليين قد اعتبروا قطاع غزة والضفة الغربية بمثابة معسكرات اعتقال ضخمة للفلسطينيين. وبينما أعطى النازيون اليهودَ حدًا أدنى من الثياب والطّعام، فقد ذهب الإسرائيليون إلى أبعد من ذلك بكثير، فنزعوا عن الفلسطينيين ثيابهم ومنعوا عنهم الطعام والماء والدواء والكهرباء، ضاربين عرض الحائط بكل الأعراف والقوانين الدولية.

إلا أنه في هدمه للمعابد اليهودية، لم يلجأ هتلر إلى تدمير بيوت اليهود أو محو مدنهم عن بكرة أبيها، كما رأينا الاحتلال الإسرائيلي المجرم يسوّي بيوتَ الفلسطينيين بالأرض، ويدمّر طوال ستة أشهر متواصلة كل مظاهر العمران والحياة في قطاع غزة المحاصر.

*

إن اعتماد الكيان الإسرائيلي منذ تأسيسه المشؤوم على الولايات المتحدة – الدولة العظمى، والأقوى نفوذاً في العالم، إضافة إلى أسباب تاريخية وتوراتية أخرى لا تخفى على أحد – حوّل إسرائيل إلى دولة لا تضمّ فقط «شعب الله المختار»، بل جعلها أيضاً كياناً متمرداً فوق كل الدول والقوانين والأعراف والحساب في كل الأزمان.

وتلك حقيقة دامغة يعرفها المتابعون جيداً، لكن نتائجها تتجسد بجلاء أمام أعيننا، خصوصاً في حرب غزة الأخيرة، حيث اعتبر الرئيس الأميركي جو بايدن نفسه شريكاً أصيلاً في هذه الحرب الظالمة، كما تقاطر على إسرائيل أغلب الزعماء الغربيين؛ معبرين عن تضامنهم المطلق وتأييدهم اللامحدود.

وقد تجلى ذلك أيضاً في العربدة المجنونة التي مارستها إسرائيل في غزة والضفة، وفي تحدّيها السافر لكل نداءات شعوب العالم لوقف هذه الحرب الشعواء، فضلاً عن ازدرائها لقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، واحتقارها لمحكمة العدل الدولية.

إضافة إلى ما سبق، لا مفرّ من الاعتراف بأن ضعف العالم العربي، واختراقه من خلال عمليات «التطبيع» المخزية مع إسرائيل، قد سوّغا للأخيرة الغلو في الاستعلاء والإفراط في الطموح، وفي تنفيذ مخططاتها التوسعية العدوانية.

*

لقد برز تأثير هذه الأجواء المسمومة بشكل واضح منذ نصف قرن تقريباً، وتحديداً منذ عام 1977 حين دخلت إسرائيل في طور سياسي جديد أنعش قوى اليمين الأكثر تطرفاً فيها. فمنذ ذلك الحين وحتى الآن، تولى حزب الليكود المتطرف، الذي تزعّمه مناحيم بيغن، مقاليد السلطة، وتتابعت على سدّة الحكم حكومات يمينية أو يمين الوسط، التي تمارس درجات متفاوتة من الغلو والتطرف. والحكومة الحالية خير نموذج على ذلك، فهي عبارة عن خليط مشوّه من أحزاب الصهيونية العلمانية (كالليكود)، والصهيونية الدينية المتطرفة (التي تتعدد مكوناتها).

وجميع هذه الأحزاب اليمينية المتطرفة تلتقي على ثلاثة أهداف رئيسية، هي: الرفض القاطع لإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة – والإيمان بأن شعب إسرائيل وحده هو صاحب الحق الحصري في «أرض إسرائيل» المزعومة، ومن ثم لا يجوز بأي حال من الأحوال «التنازل» عن أي جزء منها – والاعتقاد الجازم بأنه لا وجود أصلاً لشعب فلسطيني له حقوق مشروعة على هذه الأرض. علماً بأن مصطلح «أرض إسرائيل» عند الصهيونية الدينية المتطرفة يشمل في صيغته التوراتية القصوى كل المنطقة الممتدة من النيل إلى الفرات.

*

لقد أصبحت جماعات اليمين المتطرف تتمتع طوال نصف القرن الأخير بقوة متزايدة في إسرائيل؛ لأسباب عقائدية وأمنية وسياسية واضحة. والأدهى من ذلك أن هذا اليمين المتطرف يلقَى تشجيعاً ودعماً وتمويلاً سخياً من الإدارة الأميركيّة المتعاقبة، ومن قيادات الإنجيليين المتنفذين في الولايات المتحدة.

ورغم ما يُقال عن وجود خلافات بين نتنياهو والرئيس الأميركي الحالي، فإنه لا يُشك إطلاقاً في أن الدعم العسكري السخي المقدم لإسرائيل ظلّ من أهم العوامل التي أسهمت بشكل كبير في إطالة أمد هذه الحرب الشعواء؛ وذلك لتمكين إسرائيل من تحقيق أي إنجاز عسكري على الأرض يرد لها بعضاً من اعتبارها المفقود، وليحفظ لنتنياهو ماء وجهه أمام الرأي العام الإسرائيلي.

وهكذا تمكنت إسرائيل، بزعامة أمريكية صريحة، ورعاية أوروبية متواطئة، من ارتكاب ما لا يقل عن 2750 مجزرة مروعة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وحتى نهاية شهر مارس/آذار المنصرم، قتلت فيها ما يقارب 32 ألف فلسطيني بريء، إضافة إلى وجود نحو 7900 جثة لا تزال تحت الأنقاض. ومن بين هؤلاء الضحايا الأبرياء، يوجد أكثر من 14 ألف طفل، وعشرة آلاف امرأة، و4500 طالب وطالبة.

كما قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي بتدمير 32 مستشفى من أصل 36 كانت قائمة في قطاع غزة. وشمل التدمير الممنهج جميع الجامعات الفلسطينية، بالإضافة إلى تدمير 396 مدرسة، و200 مسجد، وثلاث كنائس. ولإحداث كل هذا التدمير والخراب الهائل، ألقت إسرائيل على قطاع غزة ما يعادل قنبلتين نوويتين، في حين ظلت واشنطن وحلفاؤها الغربيون يعارضون بشدة أي وقف لإطلاق النار طوال هذه المدة.

 

*

إن الربيع الفلسطيني الذي يطل علينا في شهره السادس، ما هو إلا تتويج مبارك للمسيرة الوطنية الفلسطينية التي لم تهدأ جذوتها النضالية على مدار أكثر من قرن من الزمان. ولدى الباحثين الفلسطينيين العديد من الكتابات التي تفصّل في هذا التاريخ الحافل.

ومن ذلك أن صبحي ياسين (الشاعر الغزي الأصيل)، قد خصص فصلاً كاملاً لانتفاضات الشعب الفلسطيني في كتابه القيم: «الثورة العربية الكبرى في فلسطين»، ركَّز فيه بشكل خاص على الانتفاضات التي اندلعت بين عامي 1936 و1939. وأشار إلى أن أول انتفاضة شهدتها البلاد، كانت في الثامن من أبريل/نيسان عام 1920، وتخللتها اشتباكات مسلحة عنيفة بين العناصر الوطنية الفلسطينية الغيورة، وسلطة الانتداب البريطاني المتواطئة مع الحركة الصهيونية، ممّا أدَّى إلى سقوط قتلى وجرحى من كلا الطرفين.

ومن مفارقات الأقدار العجيبة أن مؤلف الكتاب قد تحدّث باستفاضة عن كيفية إضعاف شوكة الثورة الفلسطينية آنذاك، حين استعان الإنجليز لأجل ذلك بعملائهم وخونتهم المتعاونين معهم في الداخل والخارج، لحثّهم على القيام بتلك المهمة القذرة.

وذكر من بين أولئك العملاء المتخاذلين اسم نوري السعيد، وزير خارجية العراق آنذاك، إضافة إلى أحد أمراء الأسرة الهاشمية في الأردن. وقد كان لنوري السعيد دور مشبوه في تحقيق الهدف المطلوب بعد زيارته لفلسطين، وتوسّطه المزعوم لوقف العنف، واسترضاء العرب واليهود على حد سواء، وترتيب إجراءات تصفية الثورة التي كانت من بينها إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، والعفو العام عن المتهمين بحوادث الثورة.

*

إنّ معركة الربيع الفلسطيني المشتعلة، والحديث عن مآلاتها المحتملة، يستدعيان إلى الذاكرة تجربة الثورات العربية التي اندلعت في عام 2011، من حيث إنّ هذين الحدثين الكبيرين قد أيقظا لدى شعوبنا العربية آمالها العريضة في استعادة حقّها المسلوب في الحرية والكرامة والعيش الكريم.

صحيح أن الربيع العربي قد تم إجهاضه بوحشية، لأسباب عديدة يطول شرحُها ويتعذّر في الظروف الراهنة الكشف عن حقائقها الدامغة، لكن الحلم الجميل الذي توهّج وأشعل الدنيا في حينها لا يزال حياً يرزق في ذاكرة ووجدان قطاعات عريضة من الناس، ناهيك عن أن أصوات ومنابر الثورة المضادة لا تزال تخوض معركتها الشرسة ضده ببسالة مثيرة للإعجاب.

ولا بد أن يثير انتباهنا هنا أن أولئك الذين خاصموا الربيع العربي بكل ما أوتوا من قوة واعتبروه بابًا للخراب والفوضى والدمار، هم أنفسهم ضمن الخصوم اللدودين للربيع الفلسطيني، حيث سارعوا إلى التنديد بما أسموه «مغامرة» غير محسوبة العواقب، وعمدوا إلى إشاعة الإحباط والتشاؤم في كل مكان؛ بحجة تعريض الفلسطينيين لنكبة جديدة، تضاف إلى قائمة نكباتهم المتعاقبة التي لا تنتهي.

*

تشغلنا كثيراً المآلات التي لا يزال أغلبها يقع في علم الغيب في ظلّ استمرار القتال المدعوم والمؤيَّد أميركيًا. وفي هذا الصدد، ليس خافياً على أحد أن إسرائيل تنشط على قدم وساق في ترتيب الأوضاع لما بعد انتهاء القتال، وتعمل جاهدة على تغيير جغرافية قطاع غزة بشكل كامل، وإعادة تشكيل العالم العربي برمته، بما يتناسب مع مصالحها وأطماعها التوسعية.

في المقابل، فإنّ دول العالم العربي، للأسف الشديد، لم تحرّك ساكناً يذكر، وظلت متفرجة على هذا المشهد المأساوي، ومكتفية بإطلاق البيانات البلاغية الجوفاء التي لا تقدّم ولا تؤخّر، حتى أصبحت عملياً في موقف الحياد السلبي إزاء ما كانت تعتبره قضيتها المركزية طوال العقود الماضية.

*

في روایة أمین معلوف الذاخرة بالعبر والدروس «الحروب الصلیبیَّة كما رآھا العرب»، توجد ملاحظة جوهرية تستحق التوقف عندها.

خلاصتها أن المسلمين كانوا في بداية الأمر يحققون انتصارات وإنجازات باهرة على الصليبيين، لكنهم كانوا يفتقدون إلى القدرة على التراكم التاريخي، وما يترتب عليه من زخم وتصعيد وتسارع وتيارات دافعة في مواجهة الحملات الهمجية المتتالية من الغزاة.

ربما بسبب هذه الخلفية التاريخية، اقتنع بعض مفكري المقاومة الفلسطينية الباسلة بأن الموجة الصھیونیّة الغازیة لن يتم الانتصار عليها أو القضاء عليها بالضربة القاضية، وإنما سيتم الفوز عليها بالنقاط وبالإنجازات المتراكمة وبالتراكم التاريخي المنشود، وتوحيد مساحات المواجهة في كل مكان. والأهم من ذلك هو استمرار الفعل المقاوم البنّاء واستنزاف العدو الصهيوني الغاشم، والقدرة الفائقة على استيعاب التضحيات الجسام.

ورغم قسوة ما جرى ويجري في قطاع غزة الصامد، فإنه ينبغي ألا ننسى أنه يمثل أحد الملفات الملهمة في مسيرة النضال الفلسطيني الطويل، وإضافة نوعية إلى التراكم التاريخي المنشود. إذ لم تحسم معركة تحرر وطني في التاريخ قط دون مواجهة شرسة، ودون تضحيات غالية وباهظة.

ورغم هول المقتلة والدمار الصهيوني، فالصورة في غزة ليست قاتمة تماماً: فالجميع يعلمون أن إسرائيل لم تحقّق على أرض الواقع سوى التدمير والقتل والتخريب، وتلك ليست بأي حال من الأحوال من الأهداف الإستراتيجية التي أعلنتها بكل تبجّح عندما أعلنت الحرب الشعواء على المقاومة الفلسطينية الباسلة. وبذلك فقد فضحت إسرائيل نفسها أمام العالم أجمع دولياً وقضائياً وسياسياً وأخلاقياً، وهي تعلم ذلك تمام العلم، لكنها لم تدرك بعدُ أن الزمن قد تغيّر، وأن موازين القوى قد تبدلت لصالح قوى الحق والعدل.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة